فصل: (الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي خِيَارِ الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ: فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: تُخَيَّرُ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي قَدْرِ التَّلَوُّمِ لَهُ، فَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، وَقِيلَ: سَنَةٌ، وَقِيلَ: سَنَتَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ غَرِيمٌ مِنَ الْغُرَمَاءِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَيُؤْخَذُ بِالنَّفَقَةِ، وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا الْمَهْرَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَغْلِيبُ شَبَهِ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ بِالْبَيْعِ، أَوْ تَغْلِيبُ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْوَطْءِ، تَشْبِيهًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ.
وَأَمَّا الْإِعْسَارُ بِالنَّفَقَةِ: فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ الْوَاقِعِ مِنَ الْعُنَّةِ، لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّطْلِيقِ عَلَى الْعِنِّينِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا: النَّفَقَةُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ النَّفَقَةَ سَقَطَ الِاسْتِمْتَاعُ، فَوَجَبَ الْخِيَارُ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَدْ ثَبَتَتِ الْعِصْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا تَنْحَلُّ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ، أَوْ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِلْقِيَاسِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي خِيَارِ الْفَقْدِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَفْقُودِ الَّذِي تُجْهَلُ حَيَاتُهُ أَوْ مَوْتُهُ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ حكم زواجه وميراثه: فَقَالَ مَالِكٌ يُضْرَبُ لِامْرَأَتِهِ أَجْلٌ أَرْبَعُ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا انْتَهَى الْكَشْفُ عَنْ حَيَاتِهِ أَوْ مَوْتِهِ فَجُهِلَ ذَلِكَ ضَرَبَ لَهَا الْحَاكِمُ الْأَجَلَ، فَإِذَا انْتَهَى اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَحَلَّتْ، قَالَ: وَأَمَّا مَالُهُ فَلَا يُورَثُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يَعِيشُ إِلَى مِثْلِهِ غَالِبًا. فَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: تِسْعُونَ، وَقِيلَ: مِائَةٌ فِيمَنْ غَابَ وَهُوَ دُونَ هَذِهِ الْأَسْنَانِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا تَحِلُّ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ، وَقَوْلُهُمْ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِلْقِيَاسِ: وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ يُوجِبُ أَنْ لَا تَنْحَلَّ عِصْمَةٌ إِلَّا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ تَشْبِيهُ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا مِنْ غَيْبَتِهِ بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا يَكُونُ فِي هَذَيْنِ. وَالْمَفْقُودُونَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَرْبَعَةٌ: مَفْقُودٌ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَمَفْقُودٌ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَمَفْقُودٌ فِي حُرُوبِ الْإِسْلَامِ (أَعْنِي: فِيمَا بَيْنَهُمْ)، وَمَفْقُودٌ فِي حُرُوبِ الْكُفَّارِ. وَالْخِلَافُ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ مِنَ الْمَفْقُودِينَ كَثِيرٌ: فَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ: فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْأَسِيرِ، لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلَا يُقَسَّمُ مَالُهُ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ، مَا خَلَا أَشْهَبَ، فَإِنَّهُ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ: فَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَقْتُولِ دُونَ تَلَوُّمٍ. وَقِيلَ: يُتَلَوَّمُ لَهُ بِحَسَبِ بُعْدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْمَعْرَكَةُ وَقُرْبِهِ، وَأَقْصَى الْأَجَلِ فِي ذَلِكَ سَنَةٌ.
وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي حُرُوبِ الْكُفَّارِ: فَفِيهِ فِي الْمَذْهَبِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَسِيرِ، وَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَقْتُولِ بَعْدَ تَلَوُّمِ سَنَةٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَفِتَنِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّابِعُ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَقْتُولِ فِي زَوْجَتِهِ، وَحُكْمُ الْمَفْقُودِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِهِ (أَعْنِي: يُعَمَّرَ وَحِينَئِذٍ يُورَثُ). وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا مَبْنَاهَا عَلَى تَجْوِيزِ النَّظَرِ بِحَسَبِ الْأَصْلَحِ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ، وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ (أَعْنِي: بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ).

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ خِيَارُ الْعِتْقِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ حكم التخيير لها أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا عُتِقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ هَلْ لَهَا خِيَارٌ أَمْ لَا أي الأمة؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَاللَّيْثُ: لَا خِيَارَ لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَهَا الْخِيَارُ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ النَّقْلِ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَاحْتِمَالُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ الجَبْرُ الَّذِي كَانَ فِي إِنْكَاحِهَا بِإِطْلَاقٍ إِذَا كَانَتْ أَمَةً، أَوِ الْجَبْرُ عَلَى تَزْوِيجِهَا مِنْ عَبْدٍ: فَمَنْ قَالَ: الْعِلَّةُ الْجَبْرُ عَلَى النِّكَاحِ بِإِطْلَاقٍ قَالَ: تُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ. وَمَنْ قَالَ الْجَبْرُ عَلَى تَزْوِيجِ الْعَبْدِ فَقَطْ قَالَ: تُخَيَّرُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَقَطْ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّقْلِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا. وَكِلَا النَّقْلَيْنِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ مَا لَمْ يَمَسَّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خِيَارُهَا عَلَى الْمَجْلِسِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّمَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا بِالْمَسِيسِ إِذَا عَلِمَتْ أَنَّ الْمَسِيسَ يُسْقِطُ خِيَارَهَا.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ حُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الْآيَةَ. وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ». وَلِقَوْلِهِ لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».

.[النَّفَقَةُ]:

فَأَمَّا النَّفَقَةُ: فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا، وَمِقْدَارِهَا، وَلِمَنْ تَجِبُ؟
، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ النفقة للزوجة؟
فَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهَا: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا تَجِبِ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا أَوْ يُدْعَى إِلَى الدُّخُولِ بِهَا، وَهِيَ مِمَّنْ تُوطَأُ، وَهُوَ بَالِغٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُ غَيْرَ الْبَالِغِ النَّفَقَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ بَالِغًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ بَالِغًا وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةً: فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ بِإِطْلَاقٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّفَقَةُ لِمَكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ لِمَكَانِ أَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ كَالْغَائِبِ وَالْمَرِيضِ.
وَأَمَّا مِقْدَارُ النَّفَقَةِ: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، فَعَلَى الْمُوسِرِ: مُدَّانِ، وَعَلَى الْأَوْسَطِ: مُدٌّ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ: مُدٌّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ حَمْلِ النَّفَقَةِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ، أَوْ عَلَى الْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَنَّ الْكِسْوَةَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَأَنَّ الْإِطْعَامَ مَحْدُودٌ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي: هَلْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِ الزَّوْجَةِ؟
وَإِنْ وَجَبَتْ فَكَمْ يَجِبُ؟
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ لِخَادِمِ الزَّوْجَةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَخْدِمُ نَفْسَهَا. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةُ الْبَيْتِ. وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا النَّفَقَةَ عَلَى خَادِمِ الزَّوْجَةِ: عَلَى كَمْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ؟
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُنْفِقُ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: عَلَى خَادِمَيْنِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا يَخْدِمُهَا إِلَّا خَادِمَانِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَسْتُ أَعْرِفُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْخَادِمِ إِلَّا تَشْبِيهَ الْإِخْدَامِ بِالْإِسْكَانِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِسْكَانَ عَلَى الزَّوْجِ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي وُجُوبِهِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ.
وَأَمَّا لِمَنْ تَجِبُ النَّفَقَةُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْحُرَّةِ الْغَيْرِ نَاشِزٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاشِزِ وَالْأَمَةِ: فَأَمَّا النَّاشِزُ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةٌ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْمَفْهُومِ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» يَقْتَضِي أَنَّ النَّاشِزَ، وَغَيْرَ النَّاشِزِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ أَنَّ النَّفَقَةَ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ يُوجِبُ أَنْ لَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزِ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ: فَاخْتَلَفَ فِيهَا أَصْحَابُ مَالِكٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ كَالْحُرَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَقِيلَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنْ كَانَتْ تَأْتِيهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِيهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَقِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ فِي الْوَقْتِ الَّتِي تَأْتِيهِ. وَقِيلَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ: وَذَلِكَ أَنَّ الْعُمُومَ يَقْتَضِي لَهَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ، وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى سَيِّدِهَا الَّذِي يَسْتَخْدِمُهَا، أَوْ تَكُونُ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِهَا ضَرْبًا مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَأْتِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُحْكَمُ عَلَى مَوْلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ أَنْ تَأْتِيَ زَوْجَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ: فَاتَّفَقُوا أَيْضًا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْحُرِّ الْحَاضِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَبْدِ وَالْغَائِبِ: فَأَمَّا الْعَبْدُ: فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْمُصْعَبِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ.
وَأَمَّا الْغَائِبُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ إِلَّا بِإِيجَابِ السُّلْطَانِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَنِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْفَاقِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

.[الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ]:

وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَاتِ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ». وَلِمَا ثَبَتَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ». وَاخْتَلَفُوا فِي مُقَامِ الزَّوْجِ عِنْدَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَهَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ أَوْ لَا يُحْتَسَبُ إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا: يُقِيمُ عِنْدَ الْبِكْرِ سَبْعًا، وَعِنْدَ الثَّيِّبِ ثَلَاثًا، وَلَا يُحْتَسَبُ إِذَا كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى بِأَيَّامِ الَّتِي تَزَوَّجَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِقَامَةُ عِنْدَهُنَّ سَوَاءٌ بِكْرًا كَانْتَ أَوْ ثَيِّبًا، وَيُحْتَسَبُ بِالْإِقَامَةِ عِنْدَهَا إِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ حَدِيثِ أَنَسٍ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ هُوَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا». وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هُوَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكَ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ، فَقَالَتْ: ثَلِّثْ». وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هُوَ مَدَنِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ خَرَّجَهُ مَالِكٌ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ بَصْرِيٌّ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فَصَارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى مَا خَرَّجَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَصَارَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى مَا خَرَّجَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي: هَلْ مُقَامُهُ عِنْدَ الْبِكْرِ سَبْعًا وَعِنْدَ الثَّيِّبِ ثَلَاثًا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُسْتَحَبُّ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّدْبِ أَوْ عَلَى الْوُجُوبِ.

.[حُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ]:

وَأَمَّا حُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: بِالرَّضَاعِ وَخِدْمَةِ الْبَيْتِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا أَوْجَبُوا عَلَيْهَا الرَّضَاعَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَوْمٌ لَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا بِإِطْلَاقٍ. وَقَوْمٌ أَوْجَبُوا ذَلِكَ عَلَى الدَّنِيئَةِ، وَلَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيفَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الطِّفْلُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا ثَدْيَهَا، وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ آيَةُ الرَّضَاعِ مُتَضَمِّنَةٌ حُكْمَ الرَّضَاعِ (أَعْنِي: إِيجَابَهُ)، أَوْ مُتَضَمِّنَةٌ أَمْرَهُ فَقَطْ؟
فَمَنْ قَالَ: أَمْرُهُ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ إِذْ لَا دَلِيلَ هُنَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَمَنْ قَالَ تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالرَّضَاعِ وَإِيجَابَهُ، وَأَنَّهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي مَفْهُومُهَا مَفْهُومُ الْأَمْرِ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِرْضَاعُ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّنِيئَةِ وَالشَّرِيفَةِ فَاعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلَا رَضَاعَ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ ثَدْيَ غَيْرِهَا، فَعَلَيْهَا الْإِرْضَاعُ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَجْرُ الرَّضَاعِ. هَذَا إِجْمَاعٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.

.[لِمَنْ تَكُونُ حَضَانَةُ الصَّغِيرِ]:

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ لِلْأُمِّ إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ، وَكَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَلِأَنَّ الْأَمَةَ وَالْمَسْبِيَّةَ إِذَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، فَأَخَصُّ بِذَلِكَ الْحُرَّةُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا بَلَغَ الْوَلَدُ حَدَّ التَّمْيِيزِ من يحضنه: فَقَالَ قَوْمٌ: يُخَيَّرُ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِأَثَرٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ. وَبَقِيَ قَوْمٌ عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَزْوِيجَهَا لِغَيْرِ الْأَبِ يَقْطَعُ الْحَضَانَةَ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي». وَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ هَذَا الْحَدِيثُ طَرَدَ الْأَصْلَ.
وَأَمَّا نَقْلُ الْحَضَانَةِ مِنَ الْأُمِّ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْأَنْكِحَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِالشَّرْعِ وَالْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ وَحُكْمِهَا:

وَالْأَنْكِحَةُ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا مُصَرَّحًا أَرْبَعَةٌ: نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَالْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ.
فَأَمَّا نِكَاحُ الشِّغَارِ صفته فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِفَتَهُ هُوَ: أَنْ يُنْكِحَ الرَّجُلُ وَلِيَّتَهُ رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُنْكِحَهُ الْآخَرُ وَلِيَّتَهُ، وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بُضْعَ هَذِهِ بِبُضْعِ الْأُخْرَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ غَيْرُ جَائِزٍ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ هَلْ يُصَحَّحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَحَّحُ، وَيُفْسَخُ أَبَدًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ سَمَّى لِأَحَدِهِمَا صَدَاقًا أَوْ لَهُمَا مَعًا فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْمَهْرُ الَّذِي سَمَّيَاهُ فَاسِدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نِكَاحُ الشِّغَارِ يَصِحُّ بِفَرْضِ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ الْمُعَلَّقُ بِذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِعَدَمِ الْعِوَضِ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟
فَإِنْ قُلْنَا: غَيْرُ مُعَلَّلٍ لَزِمَ الْفَسْخُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَإِنْ قُلْنَا الْعِلَّةُ عَدَمُ الصَّدَاقِ صَحَّ بِفَرْضِ صَدَاقِ الْمِثْلِ، مِثْلَ الْعَقْدِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ عَلَى خِنْزِيرٍ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يُفْسَخُ إِذَا فَاتَ بِالدُّخُولِ، وَيَكُونُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَكَأَنَّ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى أَنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ - فَفَسَادُ الْعَقْدِ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ فَسَادِ الصَّدَاقِ - مَخْصُوصٌ لِتَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ، أَوْ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ تَعْيِينِ الْعَقْدِ، وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ.
وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حكمه: فَإِنَّهُ وَإِنْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِهِ، إِلَّا أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّحْرِيمُ، فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَفِي بَعْضِهَا: يَوْمَ الْفَتْحِ، وَفِي بَعْضِهَا: فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِي بَعْضِهَا: فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِي بَعْضِهَا: فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَعْضِهَا: فِي عَامِ أَوْطَاسَ. وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِهَا. وَاشْتُهِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَحْلِيلُهَا، وَتَبِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا أَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَرَوَوْا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْتَجُّ لِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَفِي حَرْفٍ عَنْهُ: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَحِمَ بِهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا نَهْيُ عُمَرَ عَنْهَا مَا اضْطُرَّ إِلَى الزِّنَا إِلَّا شَقِيٌّ. وَهَذَا الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَنِصْفًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ النَّاسَ».
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي النِّكَاحِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الْخِطْبَةُ عَلَى خَطْبِهِ غَيْرِهِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْفَسْخِ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِ الْفَسْخِ. وَفُرِّقَ بَيْنَ أَنْ تَرِدَ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ بَعْدَ الرُّكُونِ وَالْقُرْبِ مِنَ التَّمَامِ، أَوْ لَا تَرِدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حكم فسخه (أَعْنِي: الَّذِي يَقْصِدُ بِنِكَاحِهِ تَحْلِيلَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا): فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: هُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ» الْحَدِيثَ. فَمَنْ فَهِمَ مِنَ اللَّعْنِ التَّأْثِيمَ فَقَطْ قَالَ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ. وَمَنْ فَهِمَ مِنَ التَّأْثِيمِ فَسَادَ الْعَقْلِ تَشْبِيهًا بِالنَّهْيِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ. فَهَذِهِ هِيَ الْأَنْكِحَةُ الْفَاسِدَةَ بِالنَّهْيِ.
وَأَمَّا الْأَنْكِحَةُ الْفَاسِدَةُ تعريفها بِمَفْهُومِ الشَّرْعِ: فَإِنَّهَا تَفْسُدُ إِمَّا بِإِسْقَاطِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، أَوْ لِتَغْيِيرِ حُكْمٍ وَاجِبٍ بِالشَّرْعِ مِنْ أَحْكَامِهِ مِمَّا هُوَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا بِزِيَادَةٍ تَعُودُ إِلَى إِبْطَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَاتُ الَّتِي تَعْرِضُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا لَا تُفْسِدُ النِّكَاحَ بِاتِّفَاقٍ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لُزُومِ الشُّرُوطِ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ لَا لُزُومِهَا، مِثْلَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَتَسَرَّى، أَوْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ بَلَدِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ يَمِينٌ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ، إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَعْتِقَ مَنْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لَهَا شَرْطُهَا وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقْضُونَ بِهَا. وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ. فَأَمَّا الْعُمُومُ: فَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ».
وَأَمَّا الْخُصُوصُ: فَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ». وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ خَرَّجَهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ الْقَضَاءُ بِالْخُصُوصِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ لُزُومُ الشُّرُوطِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا وَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُقَيَّدَةُ بِوَضْعٍ مِنَ الصَّدَاقِ فَإِنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمَذْهَبُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (أَعْنِي: فِي لُزُومِهَا، أَوْ عَدَمِ لُزُومِهَا)، وَلَيْسَ كِتَابُنَا هَذَا مَوْضُوعًا عَلَى الْفُرُوعِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ إِذَا وَقَعَتْ: فَمِنْهَا: مَا اتَّفَقُوا عَلَى فَسْخِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهَا فَاسِدًا بِإِسْقَاطِ شَرْطٍ مُتَّفَقٍ عَلَى وُجُوبِ صِحَّةِ النِّكَاحِ بِوُجُودِهِ، مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ مُحَرَّمَةَ الْعَيْنِ.
وَمِنْهَا: مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَعْفِ عِلَّةِ الْفَسَادِ وَقُوَّتِهَا، وَلِمَاذَا يَرْجِعُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِشُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَمَالِكٌ فِي هَذَا الْجِنْسِ - وَذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ - يَفْسَخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيُثْبِتُهُ بَعْدَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ عِنْدَهُ: أَنْ لَا فَسْخَ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاطُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرَى فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يَفُوتُ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُشْبِهُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ عِنْدَهُ هِيَ الْأَنْكِحَةَ الْمَكْرُوهَةَ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الدُّخُولِ وَعَدَمِ الدُّخُولِ، وَالِاضْطِرَابُ فِي الْمَذْهَبِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، وَكَأَنَّ هَذَا رَاجِعٌ عِنْدَهُ إِلَى قُوَّةِ دَلِيلِ الْفَسْخِ وَضَعْفِهِ، فَمَتَى كَانَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ قَوِيًّا فُسِخَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَمَتَى كَانَ ضَعِيفًا فُسِخَ قَبْلُ وَلَمْ يُفْسِخْ بَعْدُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلُ الْقَوِيُّ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَمِنْ قِبَلِ هَذَا أَيْضًا اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي وُقُوعِ الْمِيرَاثِ فِي الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ إِذَا وَقَعَ الْمَوْتُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ، فَمَرَّةً اعْتُبِرَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ وَالِاتِّفَاقُ، وَمَرَّةً اعْتُبِرَ فِيهِ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ عَدَمِهِ، وَقَدْ نَرَى أَنْ نَقْطَعَ هَاهُنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْهُ كِفَايَةٌ بِحَسِبِ غَرَضِنَا الْمَقْصُودِ.

.كِتَابُ الطَّلَاقِ:

وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْحَصِرُ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ:
الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ.
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَرْكَانِ الطَّلَاقِ.
الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرَّجْعَةِ.
الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ.

.الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ:

وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ مِنَ الْبِدْعِيِّ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي الْخُلْعِ.
الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي تَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنَ الْفَسْخِ.
الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ نَوْعَانِ: بَائِنٌ، وَرَجْعِيٌّ. وَأَنَّ الرَّجْعِيَّ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهَا، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَدْخُولٍ بِهَا من شروط الطلاق الرجعي، وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. وَلِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ لَمَّا طَلَّقَهَا حَائِضًا». وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا.
وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَيْنُونَةَ إِنَّمَا تُوجَدُ لِلطَّلَاقِ مِنْ قِبَلِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَمِنْ قِبَلِ عَدَدِ التَّطْلِيقَاتِ، وَمِنْ قِبَلِ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ هَلِ الْخَلْعُ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ فِي طَلَاقِ الْحُرِّ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ إِذَا وَقَعَتْ مُفْتَرِقَاتٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الْآيَةَ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتْ ثَلَاثًا فِي اللَّفْظِ دُونَ الْفِعْلِ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي إِسْقَاطِ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ، وَأَنَّ الَّذِي يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ فِي الرِّقِّ اثْنَتَانِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا مُعْتَبَرٌ بِرِقِّ الزَّوْجِ، أَوْ بِرِقِّ الزَّوْجَةِ، أَمْ بِرِقِّ مَنْ رَقَّ مِنْهُمَا. فَفِي هَذَا الْبَابِ إِذَنْ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [حُكْمُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا دُفْعَةً وَاحِدَةً]:

جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَاحِدَةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلَّفْظِ فِي ذَلِكَ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قَوْلِهِ فِي الثَّالِثَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَالْمُطَلِّقُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ مُطَلِّقُ وَاحِدَةٍ لَا مُطَلِّقُ ثَلَاثٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ عُمَرُ». وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «طَلَّقَ رُكَانَةُ زَوْجَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟
قَالَ: طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: إِنَّمَا تِلْكَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَارْتَجِعْهَا»
. وَقَدِ احْتَجَّ مَنِ انْتَصَرَ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْوَاقِعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ طَاوُسٌ، وَأَنَّ جِلَّةَ أَصْحَابِهِ رَوَوْا عَنْهُ لُزُومَ الثَّلَاثِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهْمٌ، وَإِنَّمَا رَوَى الثِّقَاتُ أَنَّهُ طَلَّقَ رُكَانَةُ زَوْجَهُ الْبَتَّةَ لَا ثَلَاثًا.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْحُكْمُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْبَيْنُونَةِ لِلطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ يَقَعُ بِإِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ نَفْسَهُ هَذَا الْحُكْمَ فِي طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمْ لَيْسَ يَقَعُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَلْزَمَ الشَّرْعُ؟
فَمَنْ شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا كَوْنُ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهَا كَالنِّكَاحِ وَالْبُيُوعِ قَالَ: لَا يَلْزَمُ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الَّتِي مَا الْتَزَمَ الْعَبْدُ مِنْهَا لَزِمَهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ، أَلْزَمَ الطَّلَاقَ كَيْفَمَا أَلْزَمَهُ الْمُطَلِّقُ نَفْسَهُ. وَكَأَنَّ الْجُمْهُورَ غَلَّبُوا حُكْمَ التَّغْلِيظِ فِي الطَّلَاقِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَلَكِنْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ الرُّخْصَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالرِّفْقُ الْمَقْصُودُ فِي ذَلِكَ (أَعْنِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}).

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [هَلْ نَقْصُ عَدَدِ الطَّلْقَاتِ يُعْتَبَرُ بِرِقِّ الزَّوْجِ أَمِ الزَّوْجَةِ؟

]:
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبَارِ نَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِالرِّقِّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّجَالُ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا كَانَ طَلَاقُهُ الْبَائِنُ الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ اخْتُلِفَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الْأَشْهَرَ عَنْهُ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ هُوَ بِالنِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً كَانَ طَلَاقُهَا الْبَائِنُ الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ أَشَذُّ مِنْ هَذَيْنِ وَهُوَ: أَنَّ الطَّلَاقَ يُعْتَبَرُ بِرِقِّ مَنْ رَقَّ مِنْهُمَا، قَالَ ذَلِكَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَغَيْرُهُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ: هَلِ الْمُؤَثِّرُ فِي هَذَا هُوَ رِقُّ الْمَرْأَةِ، أَوْ رِقُّ الرَّجُلِ. فَمَنْ قَالَ: التَّأْثِيرُ فِي هَذَا لِمَنْ بِيَدِهِ الطَّلَاقُ قَالَ: يُعْتَبَرُ بِالرِّجَالِ. وَمَنْ قَالَ: التَّأْثِيرُ فِي هَذَا لِلَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، قَالَ: هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَةِ، فَشَبَّهُوهَا بِالْعِدَّةِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالنِّسَاءِ (أَيْ: نُقْصَانُهَا تَابِعٌ لِرِقِّ النِّسَاءِ). وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ، وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ». إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ لَمْ يَثْبُتْ فِي الصِّحَاحِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ مَنْ رَقَّ مِنْهُمَا: فَإِنَّهُ جَعَلَ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ الرِّقُّ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَجْعَلْ سَبَبَ ذَلِكَ لَا الذُّكُورِيَّةَ وَلَا الْأُنُوثِيَّةَ مَعَ الرِّقِّ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [تَأْثِيرُ الرِّقِّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ]:

وَأَمَّا كَوْنُ الرِّقِّ مُؤَثِّرًا فِي نُقْصَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ: فَإِنَّهُ حَكَى قَوْمٌ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُخَالِفُونَ فِيهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الظَّاهِرِ فِي هَذَا لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمْهُورَ صَارُوا إِلَى هَذَا لِمَكَانِ قِيَاسِ طَلَاقِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ عَلَى حُدُودِهِمَا. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِ الرِّقِّ مُؤَثِّرًا فِي نُقْصَانِ الْحَدِّ. أَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ: فَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ فِي التَّكَالِيفِ حُكْمُ الْحُرِّ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ، وَالدَّلِيلُ عِنْدَهُمْ هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ مَسْمُوعٌ صَحِيحٌ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْعَبْدُ عَلَى أَصْلِهِ، وَيُشْبِهَ أَنْ يَكُونَ قِيَاسُ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَدِّ غَيْرَ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِنُقْصَانِ الْحَدِّ رُخْصَةٌ لِلْعَبْدِ لِمَكَانِ نَقْصِهِ، وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ لَيْسَتْ تَقْبُحُ مِنْهُ قُبْحَهَا مِنَ الْحُرِّ.
وَأَمَّا نُقْصَانُ الطَّلَاقِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، لِأَنَّ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِتَطْلِيقَتَيْنِ أَغْلَظُ مِنْ وُقُوعِهِ بِثَلَاثٍ لِمَا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّدَمِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْوَسَطِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الرَّجْعَةُ دَائِمَةً بَيْنَ الزَّوْجَةِ لَعَنَتَتِ الْمَرْأَةُ وَشَقِيَتْ، وَلَوْ كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ وَاقِعَةً فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لَعَنَتَ الزَّوْجُ مِنْ قِبَلِ النَّدَمِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَسِيرًا عَلَيْهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ مَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ رَفَعَ الْحِكْمَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ مِنَ الْبِدْعِيِّ:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ لِلسُّنَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا هُوَ الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الْمُطَلِّقَ فِي الْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ غَيْرُ مُطَلِّقٍ لِلسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا طَلَاقًا فِي الْعِدَّةِ؟
وَالثَّانِي: هَلِ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا (أَعْنِي: بِلَفْظِ الثَّلَاثِ) مُطَلِّقٌ لِلسُّنَّةِ أَمْ لَا؟
وَالثَّالِثُ: فِي حُكْمِ مَنْ طَلَّقَ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ.

.[الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ]: [هَلْ مِنْ شَرْطِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا طَلَاقًا فِي الْعِدَّةِ]:

أَمَّا الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ شَرْطِهَا أَنْ لَا يُتْبِعَهَا فِي الْعِدَّةِ طَلَاقًا آخَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَلَّقَهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً وَاحِدَةً كَانَ مُطَلِّقًا لِلسُّنَّةِ. وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذَا الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ رَجْعَةٍ، أَمْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ؟
فَمَنْ قَالَ: هُوَ مِنْ شَرْطِهِ قَالَ: لَا يُتْبِعُهَا فِيهِ طَلَاقًا. وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَتْبَعَهَا الطَّلَاقَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُتْبَعِ.

.[الْمَوْضِعُ الثَّانِي]: [هَلِ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا مُطَلِّقٌ لِلسُّنَّةِ؟

]:
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي: فَإِنَّ مَالِكًا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مُطَلِّقٌ لِغَيْرِ سُنَّةٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُطَلِّقٌ لِلسُّنَّةِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ إِقْرَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُطَلِّقِ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَفْهُومِ الْكِتَابِ فِي حُكْمِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ هُوَ: مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْعَجْلَانِيَّ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ. قَالَ: فَلَوْ كَانَ بِدْعَةً لَمَا أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ رَافِعٌ لِلرُّخْصَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْعَدَدِ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلسُّنَّةِ، وَاعْتَذَرَ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عِنْدَهُ قَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ قِبَلِ التَّلَاعُنِ نَفْسِهِ، فَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَمْ يَتَّصِفْ لَا بِسُنَّةٍ وَلَا بِبِدْعَةٍ، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَظْهَرُ هَاهُنَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.